الولي والسلطان مراد الثاني
كان السلطان (مراد الثاني) (1403 – 1451م) والد السلطان (محمد الفاتح) يحب الوالي (حاجي بيرام)، ويحترمه، ويوقره كثيراً، ذلك لأنه كان من أكبر زهاد ومتصوفي وعلماء عصره، وبلغ من حبه وتوقيره له، أن أصدر أمره بعدم أخذ الضريبة من مريدي هذا الوالي الذي كان يسكن في مدينة (أنقرة) التي كانت آنذاك مدينة صغيرة.
ولكن ما إن انتشر هذا الخبر، (أي خبر إعفاء مريدي ((حاجي بيرام)) من كل الضرائب) بين أهالي (أنقرة)، حتى بدأ الجميع يدعون أنهم من مريدي هذا الولي، مما أوقع موظفي الضرائب، وجباتها في حرج وفي حيرة شديدة.
ما العمل ؟ لم يكن من المعقول أن تكون أهلي المدينة كلهم من المريدين ، ولكن كيف يمكن فرز الصادقين عن المدعين الكاذبين ، ولم يكن هناك إلا حل واحد ، وهو مراجعة السلطان وإحاطته علماً بالموضوع ، وانتظار ما يأمر به.
طلب كبير محصلي الضرائب المثول بين يدي السلطان ، وعندما أذن له بذلك قال للسلطان :
- يا مولاي … نحن لا نستطيع أن نجبي الضرائب من مدينة (أنقرة) .
- وما السبب في ذلك ؟ أيمتنعون عن دفعها ؟
- كلا يا مولاي ، ولكن أوامرك تقضي بعدم جبايتها من مريدي هذا الولي (حاجي بيرام).
- أجل … ولكن ما علاقة ذلك بموضوعك ؟
- يا مولاي إن أهالي (أنقرة) كلهم يدعون أنهم من مريدي هذا الولي.
- جميع الأهالي ؟
- نعم يا مولاي.
- وهل صدقتم ذلك ؟
- لم نصدق ذلك يا مولاي … ولكن كيف نستطيع فرز الصادقين عن غير الصادقين ؟
- صحيح … يصعب ذلك … ولكني سأكتب إلى (حاجي بيرام) وأساله عن عدد مريديه.
أرسل السلطان (مراد الثاني) رسولاً يحمل رسالة منه إلى الولي (حاجي بيرام) في (أنقرة).
قرأ (حاجي بيرام) رسالة السلطان ، ثم التفت إلى يمينه إلى أحد المريدين في مجلسه وقال له :
- أريد من جميع المريدين أن يجتمعوا الأسبوع المقبل في الميدان الكبير ، وألا يتخلف منهم أحد.
وحدد اليوم و ساعة الاجتماع. وقام المريد بمهمة الإبلاغ هذه.
وفي اليوم والمكان المحددين، اجتمع جميع أهلي (أنقرة) تقريباً، ولم يكن في الميدان إلا خيمة كبيرة، وخرج منها الولي (حاجي بيرام) وتوجه إلى الناس المجتمعين، والمتلهفين لمعرفة سبب هذا الاجتماع وقال لهم:
- من كان مريداً لي ويعدني شيخاً له فليتقدم، وليدخل إلى هذه الخيمة فإني سأقدمه ضحية في سبيل الله تعالى، وسأسكب دمه خارج الخيمة.
تقدم إليه شاب من مريديه: أنا يا شيخي.
أخذ (حاجي بيرام) هذا الشاب ، (وأدخله الخيمة) ، وهناك أمر بذبح شاة ، وسكب دمها ، أمام أنظار الناس خارج الخيمة.
عقدت الدهشة والذهول ألسنة الناس المجتمعين ، فقد اعتقدوا أن الشاب ذبح وسكب دمه.
ثم خرج الولي من الخيمة ، وكرر طلبه السابق : هل من متقدم آخر ؟ أريد مريداً آخر:
- أنا يا شيخي.
وكان هذا شاب آخر من أخلص مريديه ، وجرى له ما جرى للأول … وبدأ الناس ينفضون شيئاً فشيئاً ويتركون الميدان.
- هل من مريد آخر ؟
- قالت له ذلك إحدى النساء المجتمعات.
وفي المرة الرابعة سكت الجميع ، ولم ينبس أحد ببنت شفة ، ولم يتقدم أحد إذ كانت الأنظار مصوبة إلى بقع الدماء القريبة من خيمة الولي.
في اليوم نفسه كتب (حاجي ببرام) رسالة جواب إلى السلطان مراد الثاني قال فيها: إن عدد مريديه في (أنقرة) يبلغ ثلاثة فقط … رجلان وامرأة واحدة فقط.
روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي، ص36